فصل: فصل في أصناف الناس في ـ مقام حكمة الأمر والنهي ـ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

والناس في هذا المقام ـ وهو مقام حكمة الأمر والنهي ـ على ثلاثة أصناف‏:‏ فالمعتزلة القدرية يقولون‏:‏ إن ما أمر به ونهي عنه كان حسنًا وقبيحًا قبل الأمر والنهي، والأمر والنهي كاشف عن صفته التي كان عليها لا يكسبه حسنًا ولاقبحًا، ولا يجوز عندهم أن يأمر وينهى لحكمة تنشأ من الأمر نفسه؛ ولهذا أنكروا جواز النسخ قبل التمكن من فعل العبادة، كما في قصة الذبيح، ونسخ الخمسين صلاة التي أمر بها ليلة المعراج إلى خمس، ووافقهم على منع النسخ قبل وقت العبادة/ طائفة من أهل السنة المثبتين للقدر؛ لظنهم أنه لابد من حكمة تكون في المأمور به والمنهي عنه، فلا يجوز أن ينهى عن نفس ما أمر به، وهذا قياس من يقول‏:‏ إن النسخ تخصيص في الأزمان، فإن التخصيص لا يكون برفع جميع مدلول اللفظ، لكنهم تناقضوا‏.‏

والجهمية الجبرية يقولون‏:‏ ليس للأمر حكمة تنشأ، لا من نفس الأمر، ولا من نفس المأمور به، ولا يخلق الله شيئا لحكمة، ولكن نفس المشيئة أوجبت وقوع ما وقع وتخصيص أحد المتماثلين بلا مخصص، وليست الحسنات سببًا للثواب ولا السيئات سببًا للعقاب، ولا لواحد منهما صفة صار بها حسنة وسيئة، بل لا معني للحسنة إلا مجرد تعلق الأمر بها، ولا معني للسيئة إلا مجرد تعلق النهي بها، فيجوز أن يأمر بكل أمر حتى الكفر والفسوق والعصيان، ويجوز أن ينهى عن كل أمر حتى عن التوحيد والصدق والعدل، وهو لو فعل لكان كما لو أمر بالتوحيد والصدق والعدل، ونهي عن الشرك والكذب والظلم‏.‏ هكذا يقول بعضهم، وبعضهم يقول‏:‏ يجوز الأمر بكل ما لا ينافي معرفة الأمر، بخلاف ما ينافي معرفته، وليس في الوجود عندهم سبب، ولكن إذا اقترن أحد الشيء ين بالآخر خلقًا أو شرعًا، صار علامة عليه، فالأعمال مجرد علامات محضة لا أسباب مقتضية‏.‏

وقالوا‏:‏ أمر من لم يؤمن بالإيمان معناه‏:‏ إني أريد أن أعذبكم، /وعدم إيمانكم علامة على العذاب، وكذلك أمره بالإيمان من علم أنه يؤمن معناه‏:‏ إني أريد أن أثيبك، والإيمان علامة‏.‏ وهؤلاء منهم من ينفي القياس في الشرع والتعليل للأحكام، ومن أثبت القياس منهم، لم يجعل العلل إلا مجرد علامات، ثم إنه مع هذا قد علم أن الحكم في الأصل ثابت بالنص والإجماع، وذلك دليل عليه، فأي حاجة إلى العلة‏؟‏ وكيف يتصور أن تكون العلة علامة على الحكم في الأصل، وإنما تطلب علته بعد أن يعلم ثبوت الحكم، وحينئذ فلا فائدة في العلامة‏.‏ وأما الفرع فلا يكون علة له حتى يكون علة للأصل، وهؤلاء منهم من ينكر العلل المناسبة ويقول‏:‏ المناسبة ليست طريقًا لمعرفة العلل وهم أكثر أصحاب هذا القول‏.‏ ومن قال بالمناسبة من متأخرىهم يقول‏:‏ إنه قد اعتبر في الشرع اعتبار المناسب، فيستدل بمجرد الاقتران، لا لأن الشارع حكم بما حكم به لتحصيل المصلحة المطلوبة بالحكم، ولا لدفع مفسدة أصلًا، فإن عندهم أنه ليس في خلقه ولا أمره لام كي‏.‏ فجهم - رأس الجبرية- وأتباعه في طرف، والقدرية في الطرف الآخر‏.‏

وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الإسلام ـ كالفقهاء المشهورين وغيرهم ومن سلك سبيلهم من أهل الفقه والحديث والمتكلمين في أصول الدين وأصول الفقه ـ فيقرون بالقدر، ويقرون بالشرع، ويقرون بالحكمة لله في خلقه وأمره، لكن قد يعرف أحدهم الحكمة وقد لا يعرفها، /ويقرون بما جعله من الأسباب، وما في خلقه وأمره من المصالح التي جعلها رحمة بعباده، مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه ـ أفعال العباد، وغير أفعال العباد ـ وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏ وأن كل ما وقع من خلقه وأمره فعدل وحكمة، سواء عرف العبد وجه ذلك أو لم يعرفه‏.‏

والحكمة الناشئة من الأمر ثلاثة أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ أن تكون في نفس الفعل ـ وإن لم يؤمر به ـ كما في الصدق والعدل ونحوهما من المصالح الحاصلة لمن فعل ذلك وإن لم يؤمر به، والله يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ أن ما أمر به ونهي عنه صار متصفًا بحسن اكتسبه من الأمر، وقبح اكتسبه من النهي، كالخمر التي كانت لم تحرم ثم حرمت فصارت خبيثة، والصلاة إلى الصخرة التي كانت حسنة فلما نهي عنها، صارت قبيحة‏.‏ فإن ما أمر به يحبه ويرضاه، وما نهي عنه يبغضه ويسخطه‏.‏ وهو إذا أحب عبدًا ووالاه؛ أعطاه من الصفات الحسنة ما يمتاز بها على من أبغضه وعاداه‏.‏ وكذلك المكان والزمان الذي يحبه ويعظمه ـ كالكعبة وشهر رمضان ـ يخصه بصفات يميزه بها على ما سواه، بحيث يحصل في ذلك الزمان والمكان من رحمته /وإحسانه ونعمته ما لا يحصل في غيره‏.‏

فإن قيل‏:‏ الخمر قبل التحريم وبعده سواء، فتخصيصها بالخبث بعد التحريم ترجيح بلا مرجح‏.‏

قيل‏:‏ ليس كذلك، بل إنما حرمها في الوقت الذي كانت الحكمة تقتضي تحريمها، وليس معني كون الشيء حسنًا وسيئًا مثل كونه أسود وأبيض، بل هو من جنس كونه نافعًا وضارًا، وملائمًا ومنافرًا، وصديقًا وعدوًا، ونحو هذا من الصفات القائمة بالموصوف التي تتغير بتغير الأحوال، فقد يكون الشيء نافعًا في وقت، ضارًا في وقت، والشيء الضار قد يترك تحريمه إذا كانت مفسدة التحريم أرجح، كما لو حرمت الخمر في أول الإسلام، فإن النفوس كانت قد اعتادتها عادة شديدة، ولم يكن حصل عندهم من قوة الإيمان ما يقبلون ذلك التحريم، ولا كان إيمانهم ودينهـم تامًا حتى لم يبق فيه نقص إلا ما يحصل بشرب الخمر من صدها عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلهذا وقع التدريج في تحريمها، فأنزل الله أولًا فيها‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ ثم أنزل فيها ـ لما شربها طائفة وَصَلُّوا فغلط الإمام في القراءة ـ‏:‏ آية النهي عن الصلاة سكارى، ثم أنزل الله آية التحريم‏.‏

/والنوع الثالث‏:‏ أن تكون الحكمة ناشئة من نفس الأمر، وليس في الفعل البتة مصلحة، لكن المقصـود ابتلاء العبد هل يطيع أو يعصي‏؟‏ فإذا اعتقد الوجوب وعزم على الفعل، حصل المقصود بالأمر فينسخ حينئذ‏.‏ كما جرى للخليل في قصة الذبح، فإنه لم يكن الذبح مصلحة، ولا كان هو مطلوب الرب في نفس الأمر، بل كان مراد الرب ابتلاء إبراهيم ليقدم طاعة ربه ومحبته على محبة الولد، ولا يبقي في قلبه التفات إلى غير الله، فإنه كان يحب الولد محبة شديدة، وكان قد سأل الله أن يهبه إياه ـ وهو خليل الله ـ فأراد ـ تعالى ـ تكميل خلته لله بألا يبقي في قلبه ما يزاحم به محبة ربه ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏:‏ 106‏]‏ ومثل هذا الحديث الذي في صحيح البخــاري، حديث أبرص وأقرع وأعمي، كان المقصود ابتلاءهم لا نفس الفعل‏.‏ وهذا الوجه والذي قبله مما خفي على المعتزلة، فلم يعرفوا وجه الحكمة الناشئة من الأمر، ولا من المأمور لتعلق الأمر به، بل لم يعرفوا إلا الأول‏.‏ والذين أنكروا الحكمة عندهم الجميع سواء، لا يعتبرون حكمة، ولا تخصيص فعل بأمر، ولا غير ذلك، كما قد عرف من أصلهم‏.‏

ثم إن كثيرًا من هؤلاء وهؤلاء يتكلمون في تفسير القرآن والحديث والفقه، فيبنون على تلك الأصول التي لهم ولا يعرف حقائق أقوالهم إلا /من عرف مأخذهم‏.‏ فقول القائل‏:‏ إن ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ وفاتحة الكتاب قد تكون كل واحدة منهما في نفسها مماثلة لسائر السور، وآية الكرسي مماثلة لسائر الآيات، وإنما خصت بكثرة ثواب قارئها، أو لم تتعين الفاتحة في الصلاة ونحو ذلك إلا لمحض المشيء ة من غير أن يكون فيها صفة تقتضي التخصيص، هو مبني على أصول جهم في الخلق والأمر، وإن كان وافقه عليه أبو الحسن وغيره‏.‏ وكتب السنة المعروفة التي فيها آثار السلف يذكر فيها هذا وهذا، ويجعل هذا القول قول الجبرية المتبعين لجهم في أقوال القدرية الجبرية المبتدعة، والسلف كانوا ينكرون قول الجبرية الجهمية كما ينكرون قول المعتزلة القدرية، وهذا معروف عن سفيان الثوري والأوزاعي والزبيدي وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم، وقد ذكر ذلك غير واحد من أتباع الأئمة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وسائر أهل السنة في كتبهم، كما قد بسط في مواضعه، وذكرت أقوال السلف والأئمة في ذلك‏.‏

وإنما نبهنا هنا على الأصل؛ لأن كثيرًا من الناس لا يعرف ذلك، ولا يظن قول أهل السنة في القدر إلا القول الذي هو عند أهل السنة قول جهم وأتباعه المجبرة أو ما يشبه ذلك‏.‏ كما أن منهم من يظن أن قول أهل السنة في مسائل الأسماء والأحكام والموعد والوعيد هو ـ أيضًا ـ القول المعروف عند أهل السنة بقول جهم‏.‏ وهذا يعرفه من يعرف /أقوال الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام المشهورين في هذه الأصول‏.‏ وذلك موجود في الكتب المصنفة التي فيها أقوال جمهور الأئمة التي يذكر فيها أقوالهم في الفقه كثيرًا، والعلماء الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة على مذهب السلف في ذلك، وكثير من الكتب المصنفة التي يذكر فيها أقوال السلف على وجه الاتباع من تصنيف أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم يذكرون ذلك فيها‏.‏

وينبغي للعاقل أن يعرف أن مثل هذه المسائل العظيمة التي هي من أعظم مسائل الدين لم يكن السلف جاهلين بها ولا معرضين عنها، بل من لم يعرف ما قالوه فهو الجاهل بالحق فيها، وبأقوال السلف، وبما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ والصواب في جميع مسائل النزاع ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقولهم هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والعقل الصريح‏.‏ وقد بسط هذا في مواضع كثيرة‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏

/ سئل شيخ الإسلام ومفتي الأنام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ عن فتيا صورتها‏:‏

ما تقول السادة العلماء في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الإخلاص‏:‏ ‏(‏إنها تعدل ثلث القرآن‏)‏ فكيف ذلك مع قلة حروفها، وكثرة حروف القرآن‏؟‏ بينوا لنا ذلك بيانًا مبسوطًا شافيًا، وأفتونا مأجورين ـ إن شاء الله تعالى‏.‏

فأجاب ـ رضي الله عنه ـ بما صورته‏:‏

الحمد لله، الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ‏{‏قٍلً هٍوّ بلَّهٍ أّحّدِ‏}‏ وأنها تعدل ثلث القرآن من أصح الأحاديث وأشهرها، حتى قال طائفة من الحفاظ كالدارقطني‏:‏ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سورة من القرآن أكثر مما صح عنه في فضل ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏، وجاءت الأحاديث بالألفاظ كقوله‏:‏ ‏(‏قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من قرأ قل هو الله أحد/مرة، فكأنما قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين، فكأنما قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثًا، فكأنما قرأ القرآن كله‏)‏، وقوله للناس‏:‏ ‏(‏احتشدوا حتى أقرأ عليكم ثلث القرآن‏)‏، فحشدوا حتى قرأ عليهم‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، إنها تعدل ثلث القرآن‏)‏‏.‏

وأما توجيه ذلك، فقد قالت طائفة من أهل العلم‏:‏ إن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث‏:‏ ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي‏.‏ و‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ هي صفة الرحمن ونسبه، وهي متضمنة ثلث القرآن؛ وذلك لأن القرآن كلام الله ـ تعالى ـ والكلام إما إنشاء وإما إخبار؛ فالإنشاء هو الأمر والنهي، وما يتبع ذلك كالإباحة ونحوها وهو الأحكام‏.‏ والإخبار، إما إخبار عن الخالق، وإما إخبار عن المخلوق‏.‏ فالإخبار عن الخالق هو التوحيد، وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته، والإخبار عن المخلوق هو القصص، وهو الخبر عما كان وعما يكون، ويدخل فيه الخبر عن الأنبياء وأممهم، ومن كذبهم، والإخبار عن الجنة والنار، والثواب والعقاب‏.‏ قالوا‏:‏ فبهذا الاعتبار تكون ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ تعدل ثلث القرآن، لما فيها من التوحيد الذي هو ثلث معاني القرآن‏.‏

بقي أن يقال‏:‏ فإذا كانت تعدل ثلث القرآن مع قلة حروفها، كان/للرجل أن يكتفي بها عن سائر القرآن‏.‏

فيقال في جواب ذلك‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنها تعدل ثلث القرآن‏)‏، وعدل الشيء ـ بالفتح ـ يقال على ما ليس من جنسه، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فجعل الصيام عدل كفارة، وهما جنسان‏.‏ ولا ريب أن الثواب أنواع مختلفة في الجنة، فإن كل ما ينتفع به العبد ويلتذ به من مأكول ومشروب ومنكوح ومشموم هو من الثواب، وأعلاه النظر إلى وجه الله ـ تعالى ـ وإذا كانت أحوال الدنيا لاختلاف منافعها يحتاج إليها كلها، وإن كان بعضها يعدل ما هو أكبر منه في الصورة، كما أن ألف دينار تعدل من الفضة والطعام والثياب وغير ذلك ما هو أكبر منها، ثم من ملك الذهب فقد ملك ما يعدل مقدار ألف دينار من ذلك، وإن كان لا يستغني بذلك عن سائر أنواع المال التي ينتفع بها؛ لأن المساواة وقعت في القدر لا في النوع والصفة، فكذلك ثواب‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ وإن كان يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر، فلا يجب أن يكون مثله في النوع والصفة، وأما سائر القرآن ففيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد ما يحتاج إليه العباد؛ فلهذا كان الناس محتاجين لسائر القرآن، ومنتفعين به منفعة لا تغني عنها هذه السورة، وإن كانت تعدل ثلث القرآن‏.‏

فهذه المسألة مبنية على أصل، وهو أن القرآن هل يتفاضل في/نفسه، فيكون بعضه أفضل من بعض‏؟‏ وهذا فيه للمتأخرىن قولان مشهوران‏:‏ منهم من قال‏:‏ لا يتفاضل في نفسه؛ لأنه كله كلام الله، وكلام الله صفة له قالوا‏:‏ وصفة الله لا تتفاضل، لا سيما مع القول بأنه قديم، فإن القديم لا يتفاضل، كذلك قال هؤلاء في قوله تعالي‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، قالوا‏:‏ فخير إنما يعود إلى غير الآية، مثل نفع العباد وثوابهم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن بعض القرآن أفضل من بعض، وهذا قول الأكثرين من الخلف والسلف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح في الفاتحة‏:‏ ‏(‏إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن مثلها‏)‏، فنفي أن يكون لها مثل، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إنه متماثل‏؟‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب‏:‏ ‏(‏يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فضرب بيده في صدره وقال له‏:‏ ‏(‏لِيَهَنك العلم أبا المنذر‏)‏، فقد بين أن هذه الآية أعظم آية في القرآن، وهذا بين أن بعض الآيات أعظم من بعض‏.‏

وأيضًا، فإن القرآن كلام الله والكلام يشرف بالمتكلم به، سواء كان خبرًا أو أمرًا، فالخبر يشرف بشرف المخبر وبشرف المخبر عنه، والأمر يشرف بشرف الآمر، وبشرف المأمور به، فالقرآن وإن كان/كله مشتركًا، فإن الله تكلم به، لكن منه ما أخبر الله به عن نفسه، ومنه ما أخبر به عن خلقه، ومنه ما أمرهم به‏.‏ فمنه ما أمرهم فيه بالإيمان، ونهاهم فيه عن الشرك، ومنه ما أمرهم به بكتابة الدين، ونهاهم فيه عن الربا‏.‏

ومعلوم أن ما أخبر به عن نفسه كـ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ أعظم مما أخبر به عن خلقه كـ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏}‏ وما أمر فيه بالإيمان، وما نهي فيه عن الشرك أعظم مما أمر فيه بكتابة الدين ونهي فيه عن الربا؛ ولهذا كان كلام العبد مشتركًا بالنسبة إلى العبد، وهو كلام لمتكلم واحد، ثم إنه يتفاضل بحسب المتكلم فيه‏.‏ فكلام العبد الذي يذكر به ربه ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر أفضل من كلامه الذي يذكر فيه خلقه، ويأمر فيه بمباح أو محظور‏.‏ وإنما غلط من قال بالأول؛ لأنه نظر إلى إحدى جهتي الكلام، وهي جهة المتكلم به، وأعرض عن الجهة الأخرى، وهي جهة المتكلم فيه، وكلاهما للكلام به تعلق يحصل به التفاضل والتماثل‏.‏

قالوا‏:‏ ومن أعاد التفاضل إلى مجرد كثرة الثواب أو قلته من غير أن يكون الكلام في نفسه أفضل، كان بمنزلة من جعل عملين متساويين وثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر، مع أن العملين في أنفسهما لم يختص أحدهما بمزية، بل كدرهم ودرهم تصدق بهما رجل واحد في وقت واحد/ومكان واحد على اثنين متساويين في الاستحقاق ونيته بهما واحدة، ولم يتميز أحدهما على الآخر بفضيلة، فكيف يكون ثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر‏؟‏ ‏!‏ بل تفاضل الثواب والعقاب دليل على تفاضل الأعمال في الخير والشر‏.‏ وهذا الكلام متصل بالكلام في اشتمال الأعمال على صفات بها كانت صالحة حسنة، وبها كانت فاسدة قبيحة‏.‏ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏

وقول من قال‏:‏ صفات الله لا تتفاضل ونحو ذلك، قول لا دليل عليه، بل هو مورد النزاع، ومن الذي جعل صفته التي هي الرحمة لا تفضل على صفته التي هي الغضب، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي تغلب غضبي‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏تسبق غضبي‏)‏‏.‏ وصفة الموصوف من العلم والإرادة والقدرة والكلام والرضا والغضب، وغير ذلك من الصفات تتفاضل من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن بعض الصفات أفضل من بعض، وأَدْخََلَ في كمال الموصوف بها، فإنا نعلم أن اتصاف العبد بالعلم والقـدرة والرحمـة، أفضل من اتصافه بضد ذلك، لكن الله ـ تعالى ـ لا يوصف بضد ذلك، ولا يوصف إلا بصفات الكمال، وله الأسماء الحسني يُدْعَي بها، فلا يدعي إلا بأسمائه الحسني ـ وأسماؤه متضمنة لصفاته ـ وبعض أسمائه أفضل من بعض، / وأدخل في كمال الموصوف بها؛ ولهذا في الدعاء المأثور‏:‏ ‏(‏أسألك باسمك العظيم الأعظم، الكبير الأكبر‏)‏، و‏(‏لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سئل به أعطى‏)‏، وأمثال ذلك‏.‏ فتفاضل الأسماء والصفات من الأمور البينات‏.‏

والثاني‏:‏ أن الصفة الواحدة قد تتفاضل، فالأمر بمأمور يكون أَكْمَل من الأمر بمأمور آخر، والرضا عن النبيين أعظم من الرضا عمن دونهم، والرحمة لهم أكمل من الرحمة لغيرهم، وتكليم الله لبعض عباده، أكمل من تكليمه لبعض، وكذلك سائر هذا الباب‏.‏ وكما أن أسماءه وصفاته متنوعة، فهي ـ أيضًا ـ متفاضلة، كما دل على ذلك الكتاب والسـنة والإجماع مع العقل، وإنما شبهة من منع تفاضلها من جنس شبهة من منع تعددها، وذلك يرجع إلى نفي الصفات، كما يقوله الجهمية لما ادعوه من التركيب، وقد بينا فساد هذا مبسوطًا في موضعه‏.‏

/ وسئل عمن يقرأ القرآن، هل يقرأ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ مرة أو ثلاثًا‏؟‏ وما السنة في ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا قرأ القرآن كله ينبغي أن يقرأها كما في المصحف مرة واحدة، هكذا قال العلماء؛ لئلا يزاد على ما في المصحف‏.‏ وأما إذا قرأها وحدها، أو مع بعض القرآن، فإنه إذا قرأها ثلاث مرات، عدلت القرآن‏.‏ والله أعلم‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله ـ تعالى ـ عليه وسلم تسليمًا‏.‏

 

فصل

في تفسير‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏‏.‏

والاسم ‏[‏الصَّمَدُ‏]‏ فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة -وليست كذلك- بل كلها صواب، والمشهور منها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الصمد هو الذي لا جوف له‏.‏

والثاني‏:‏ أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج‏.‏ والأول هو قول / أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة‏.‏ والثاني قول طائفة من السلف والخلف، وجمهور اللغويين، والآثار المنقولة عن السلف بأسانيدها في كتب التفسير المسندة، وفي كتب السنة وغير ذلك، وقد كتبنا من الآثار في ذلك شيئا كثيرًا بإسناده فيما تقدم‏.‏

وتفسير ‏[‏الصَّمَدُ‏]‏ بأنه الذي لا جوف له، معروف عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا، وعن ابن عباس، والحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وقتادة‏.‏ وبمعني ذلك قال سعيد بن المسيب قال‏:‏ هو الذي لا حشو له‏.‏ وكذلك قال ابن مسعود‏:‏ هو الذي ليست له أحشاء‏.‏ وكذلك قال الشعبي‏:‏ هو الذي لا يأكل ولا يشرب‏.‏ وعن محمد بن كعب القرظي، وعكرمة‏:‏ هو الذي لا يخرج منه شيء‏.‏ وعن ميسرة قال‏:‏ هو المصمت‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كأن الدال في هذا التفسير مبدلة من تاء، والصمت من هذا‏.‏

قلت‏:‏ لا إبدال في هذا، ولكن هذا من جهة الاشتقاق الأكبر، وسنبين ـ إن شاء الله ـ وجه القول من جهة الاشتقاق واللغة‏.‏

وفي الحـديث المأثـور في سبـب نزول هـذه الآيـة الذي رواه الإمـام أحمد في المسـند وغيره من حـديث أبي سعـد الصغاني، حـدثنا أبو جعفـر الرازي، / عـن الربيع بن أنس، عـن أبي العالية، عن أُبي بن كعب، أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ انسب لنا ربك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الصمد الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليـس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت ولا يورث‏)‏‏.‏

وأما تفسيره بأنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، فهو ـ أيضًا ـ مروي عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا، فهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ الصمد‏:‏ السيد الذي كمل في سؤدده‏.‏ وهذا مشهور عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال‏:‏ هو السيد الذي انتهى سؤدده‏.‏ وعن أبي إسحاق الكوفي عن عكرمة‏:‏ الصمد‏:‏ الذي ليس فوقه أحد‏.‏ ويروى هذا عن علي، وعن كعب الأحبار‏:‏ الذي لا يكافئه من خلقه أحد‏.‏ وعن السدي ـ أيضًا ـ‏:‏ هو المقصود إليه في الرغائب، والمستغاث به عند المصائب‏.‏ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ هو المستغني عن كل أحد، المحتاج إليه كل أحد‏.‏ وعن سعيد بن جبير ـ أيضًا ـ‏:‏ الكامل في جميع صفاته وأفعاله‏.‏ وعن الربيع‏:‏ الذي لا تعتريه الآفات‏.‏ وعن مقاتل بن حيان‏:‏ الذي لا عيب فيه‏.‏ وعن ابن كَيْسان‏:‏ هو الذي لا يوصف بصفته أحد‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد‏:‏ السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم‏.‏

/وقال الزجاج‏:‏ هو الذي ينتهي إليه السؤدد، فقد صمد له كل شيء، أي‏:‏ قصد قصده، وقد أنشدوا في هذا بيتين مشهورين‏.‏

أحدهما‏:‏

ألا بَكَّرَ الناعي بخيري بني أَسَدْ ** بعمـرو بن مسعـود وبالسـيد الصَّمَـدْ

وقال الآخر‏:‏

عـلوته بحـسـام ثـم قـلت لـه ** خذها حذيفُ فأنت السيدُ الصمدُ

وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الصَّمَدُ‏:‏ هو السيد المقصود في الحوائج، تقول العرب‏:‏ صمدت فلانًا أَصْمِدُه ـ بكسر الميم ـ وأَصْمُدُهُ ـ بضم الميم ـ صَمْدًا ـ بسكون الميم ـ إذا قصدته، والمصمود صمد كالقبض بمعني المقبوض، والنقض بمعني المنقوض‏.‏ ويقال‏:‏ بيت مصمود ومصمد، إذا قصده الناس في حوائجهم‏.‏ قال طرفة‏:‏

وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ** إلى ذروة البيت الرفيع المصمد

وقال الجوهري‏:‏ صمده يصمده صمدًا‏:‏ إذا قَصَدَهُ‏.‏ والصمد ـ بالتحريك ـ‏:‏ السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج، ويقال‏:‏ بيت مُصمَّد ـ بالتشديد ـ أي‏:‏ مقصود‏.‏

/وقـال الخطابي‏:‏ أصح الوجوه أنه السيد الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج؛ لأن الاشتقاق يشهد له، فإن أصل الصمد‏:‏ القصد‏.‏ يقال‏:‏ أَصْمُدُ صَمْدَ فلان، أي‏:‏ أقصد قَصْدَهُ، فالصمد‏:‏ السيد الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الصمد‏:‏ الباقي بعد خلقـه‏.‏ وقـال مجاهـد، ومعمـر‏:‏ هـو الدائم‏.‏ وقد جعل الخطابي وأبو الفرج ابن الجـوزي الأقوال فيـه أربعـة، هـذين، واللذين تقدمـا‏.‏ وسنبـين ـ إن شاء الله ـ أن بقاءه ودوامـه من تمام الصمديـة‏.‏ وعـن مـرة الهمـداني‏:‏ هو الذي لا يبلي ولا يفني‏.‏ وعنه ـ أيضًا ـ قال‏:‏ هو الذي يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه‏.‏

وقال ابن عطاء‏:‏ هو المتعالى عن الكون والفساد‏.‏ وعنه ـ أيضًا ـ قال‏:‏ الصمد الذي لم يتبين عليه أثر فيما أظهر ـ يريد قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ هو الأزلي بلا ابتداء‏.‏ وقال محمد بن على ـ الحكيم الترمذي ـ‏:‏ هو الأول بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عمد‏.‏ وقال ـ أيضًا ـ‏:‏ الصمد الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحويه الأفكار، ولا تبلغه الأقطار، وكل شيء عنده بمقدار‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي جل عن شبه المصورين‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعني نفي التجزي والتأليف عن ذاته‏.‏ وهذا قول كثير من أهل الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي أيست العقول من الاطلاع على كيفيته‏.‏ وكذلك قيل‏:‏ هو الذي لا تدرك حقيقة نعوته/وصفاته، فلا يتسع له اللسان، ولا يشير إليه البنان‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي لم يعط خلقه من معرفته إلا الاسم والصفة‏.‏ وعن الجنيد قال‏:‏ الذي لم يجعل لأعدائه سبيلًا إلى معرفته‏.‏

ونحن نذكر ما حضرنا من ألفاظ السلف بأسانيدها، فروى ابن أبي حاتم في تفسيره قال‏:‏ ثنا أبي، ثنا محمد بن موسي بن نفيع الجرشي، ثنا عبد الله بن عيسي ـ يعني أبا خلف الخزاز ـ ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ الصمد الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء‏.‏

حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا محمد بن ثعلبة بن سواء السَّدُوسي، ثنا محمد بن سواء، ثنا سعيد ابن أبي عَرُوَبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال‏:‏ الصمد‏:‏ الذي يصمد العباد إليه في حوائجهم‏.‏ ‏.‏ حدثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن الضحاك، ثنا سويد بن عبد العزيز، ثنا سفيان ابن حسين، عن الحسن قال‏:‏ الصمد‏:‏ الحي القيوم الذي لا زوال له‏.‏ حدثنا أبي، ثنا نصر ابن علي، ثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال‏:‏ الصمد‏:‏ الباقي بعد خلقه، وهو قـول قتادة‏.‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، ثنا ابن نُمَيْر، عن الأعمش، عن شَقِيق في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ السيد الذي قد انتهى سؤدده‏.‏

/حدثنا أبي، ثنا أبو صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذه صفته لا تنبغي لأحد إلا له، ليس له كفؤ، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار‏.‏

حدثنا كثير بن شهاب المدْحجي القزويني، ثنا محمد بن سعيد بن سابق، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ الذي لم يلد ولم يولد‏.‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رَجَاء، عن عِكْرِمَة في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ الذي لم يخرج منه شيء‏.‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أحمد، ثنا مَنْدَل بن علي، عن أبي روق ـ عطية بن الحارث ـ عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي ليس له أحشاء‏.‏ وروي عن سعيد بن المسيب مثله‏.‏

حدثنا أبي، ثنا محمد بن عمر بن عبد الله الرومي، ثنا عبيد الله بن سعيد ـ قائد الأعمش ـ عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن بُرَيْدَة عن أبيه قال‏:‏ لا أعلمه إلا قد رفعه قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا جوف/ له‏.‏ وروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايات، والحسن وعكرمة وعطية وسعيد بن جُبَيْر ومجاهد في إحدى الروايات والضحاك مثل ذلك‏.‏ حدثنا أبي، ثنا قَبِيصة، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال‏:‏ الصمد‏:‏ المصمت الذي لا جوف له‏.‏

حدثنا أبو عبد الله الطهراني، ثنا حفص بن عمر العَدَني، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قـوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا يُطْعَم‏.‏ حدثنا أبي، ثنا على بن هاشم بن مرزوق، ثنا هُشَيْم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب‏.‏ حدثنا أبي وأبو زُرْعَة قالا‏:‏ ثنا أحمد بن مَنِيع، ثنا محمد بن ميسر ـ يعني أبا سعد الصغاني ـ ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يلد إلا يموت، وليس شيء يموت إلا يورث، وإن الله لا يموت، ولا يورث، ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ قال‏:‏ لم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيء‏.‏

حدثنا على بن الحسين، ثنا محمود بن خِدَاش، ثنا أبو سعد الصغاني، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب‏:‏ أن المشركين قالوا‏:‏ انسب لنا ربك، فأنزل الله /هذه السورة‏.‏ حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا العباس بن الوليد، ثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد عن قتادة ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ قال‏:‏ إن الله لا يكافئه من خلقه أحد‏.‏ حدثنا على بن الحسين، ثنا أبو عبد الله الجرشي، ثنا أبو خلف ـ عبد الله بن عيسي ـ ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ إن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وجُدِّي بن أخطب، فقالوا‏:‏ يا محمد، صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ‏}‏ فيخرج منه الولد ‏{‏وَلَمْ يُولَدْ‏}‏ فيخرج منه شيء‏.‏

وقال ابن جرير الطبري في تفسيره‏:‏ حدثنا أحمد بن منيع المروزي، ومحمود بن خداش الطالقاني، فذكر مثل إسناد ابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب سؤال المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ انسب لنا ربك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏ حدثنا ابن حميد، ثنا يحيي بن واضح، ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة؛ أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن صفة ربك ما هو‏؟‏ ومن أي شيء هو‏؟‏ فأنزل الله هذه السورة‏.‏ ورواه ـ أيضًا ـ عن أبي العالية، وعن جابر بن عبد الله، حدثنا شريح، ثنا إسماعيل بن مجاهد، عن الشعبي، عن جابر، فذكره قال‏:‏ وقيل‏:‏ هو من سؤال اليهود‏.‏

حدثنا ابن حميد، ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن سعيد/ قال‏:‏ أتي رهط من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلقه‏؟‏ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبًا لربه، فجاءه جبريل فسكنه، وقال‏:‏ اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه قال‏:‏ يقول الله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ إلى آخرها فلما تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له‏:‏ صف لنا ربك كيف خَلْقه‏؟‏ كيف عَضده‏؟‏ كيف ساعده‏؟‏ وكيف ذراعه‏؟‏ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول، وساورهم، فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته الأولى، وأتاه بجواب ما سألوه فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وروي الحكم بن مَعْبَد في كتاب ‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ قال‏:‏ ثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، ثنا سلمة بن شبيب، ثنا يحيي بن عبد الله، ثنا ضرار، عن أبان، عن أنس قال‏:‏ أتت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم، خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك‏؟‏ قال‏:‏ فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل فقال‏:‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏، ليس له عروق شُعِّب إليها، ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ ليس بأجوف ولا يأكل/ولا يشرب، ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏}‏ ليس له ولد ولا والد ينسب إليه، ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ليس شيء من خلقه يعدل مكانه، يمسك السموات والأرض أن تزولا‏.‏ الحديث‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ ثنا عبد الرحمن بن الأسود، ثنا محمد بن ربيعة، عن سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي ليس بأجوف‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ المصمت الذي لا جوف له‏.‏ حدثنا أبو كُرَيْب، ثنا وَكيع، عن سفيان، عن منصور مثله سواء‏.‏

حدثنا الحارث، ثنا الحسن، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد مثله‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا الربيع بن مسلم، عن الحسن، قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا جوف له، وبهذا الإسناد عن إبراهيم بن ميسرة قال‏:‏ أرسلني مجاهد إلى سعيد بن جبير أسأله عن ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ فقال‏:‏ الذي لا جوف له‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا يحيي، ثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا يَطْعَمُ الطعام‏.‏ ورواه يعقوب، عن هُشَيْم، عن إسماعيل عنه قال‏:‏ لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب‏.‏

حدثنا ابن بشار وزيد بن أخزم قالا‏:‏ ثنا ابن داود، عن المستقيم بن عبد الملك، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا حشو/له‏.‏ حدثنا الحسين، ثنا أبو معاذ، ثنا عبيد قال‏:‏ سمعت الضحاك يقول‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا جوف له‏.‏ وروي عن ابن بريدة فيه حديثًا مرفوعًا لكنه ضعيف قال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ هو الذي لا يخرج منه شيء‏.‏ حدثنا يعقوب بن أبي عُلَيَّة، عن أبي رجاء، سمعت عكرمة قال في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ لم يخرج منه شيء، لم يلد، ولم يولد‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي رجاء ـ محمد بن يوسف ـ عن عكرمة قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا يخرج منه شيء‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لم يلد ولم يولد، وذكر حديث أبي بن كعب الذي رواه ابن أبي حاتم، والذي فـيه‏:‏ إنه ـ سبحانه ـ لا يمـوت ولا يورث‏.‏ قـال‏:‏ وقـال آخرون‏:‏ هو السيد الذي انتهى في سـؤدده‏.‏ قال‏:‏ وثنا أبو السائب، ثنا أبو معاويـة، عن الأعمش، عن شَقِيق قـال‏:‏ ‏{‏بصَّمّدٍ‏}‏‏:‏ هـو السيد الذي انتهى في سـؤدده‏.‏ حـدثنا أبو كُرَيب وابن بشار وابن عبد الأعلى قالوا‏:‏ ثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي وائل قال‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ السيد الذي انتهى في سـؤدده‏.‏ حـدثنا ابن حميد، ثنا مِهْرَان، عـن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل مثلـه‏.‏ حدثنا أبو صالح، ثنا معاوية عن علي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ قال‏:‏ السيد الذي قد كمل في سؤدده، وذكر مثل الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، كما تقدم‏.‏

/قلت‏:‏ الاشتقاق يشهد للقولين جميعًا قول من قال‏:‏ إن ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏:‏ الذي لا جوف له، وقول من قال‏:‏ إنه السيد‏.‏ وهو على الأول أدل؛ فإن الأول أصل للثاني، ولفظ ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ يقال على ما لا جوف له في اللغة‏.‏ قال يحيي بن أبي كثير‏:‏ الملائكة صمد والآدميون جوف‏.‏ وفي حديث آدم أن إبليس قال عنه‏:‏ إنه أجوف ليس بصمد‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ المصمد لغة في المصمت، وهو الذي لا جوف له‏.‏ قال‏:‏ والصماد‏:‏ عفاص القارورة‏.‏ وقال الصَّمْدُ‏:‏ المكان المرتفع الغليظ‏.‏ قال أبو النجم‏:‏

يغادر الصمد كظهر الأجزل وأصل هذه المادة‏:‏ الجمع والقوة، ومنه يقال‏:‏ يصمد المال، أي يجمعه، وكذلك ‏[‏السيد‏]‏ أصله سيود، اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت‏.‏ كما قيل‏:‏ ميت وأصله ميوت‏.‏ والمادة في السواد والسؤدد تدل على الجمع، واللون الأسود هو الجامع للبصر‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا وَحَصُورًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، قال أكثر السلف‏:‏ ‏{‏وَسَيِّدًا‏}‏‏:‏ حليمًا‏.‏ وكذلك يروي عن الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، وأبي الشعثاء، والربيع بن أنس، ومقاتل‏.‏ وقال أبو روق عن الضحاك‏:‏ إنه الحسن الخلق‏.‏ وروي سالم عن سعيد بن جبير أنه التقي، ولا يسود الرجل الناس حتى يكون في نفسه مجتمع الخلق ثابتًا‏.‏ /وقال عبد الله بن عمر‏:‏ ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية، فقيل له‏:‏ ولا أبو بكر، ولا عمر، قال‏:‏ كان أبو بكر وعمر خيرًا منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ يعني به الحليم، أو قال‏:‏ الكريم؛ ولهذا قيل‏:‏

إذا شئت يومًا أن تسود قبيلة ** فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم

ولهذا فسر طائفة من السلف السيد بأنه سيد قومه في الدين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو الشريف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الذي يفوق قومه في الخير‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ السيد هنا الرئيس، والإمام في الخير‏.‏ وعن ابن عباس ومجاهد‏:‏ هو الكريم على ربه‏.‏ وعن سعيد بن المسيب‏:‏ هو الفقيه العالم‏.‏ وقد تقدم أنهم يقولون لعفاص القارورة‏:‏ صماد‏.‏ قال الجوهري‏:‏ العِفَاصُ‏:‏ جلدٌَ يلْبَسهُ رأسُ القارورة، وأما الذي يدخل في فمه فهو الصمام وقد عفصت القارورة، شددت عليها العفاص‏.‏

قلت‏:‏ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة‏:‏ ‏(‏ثم اعرف عفاصها ووكاءها‏)‏‏.‏ والمراد بالعفاص‏:‏ ما يكون فيه الدراهم كالخرقة التي تربط فيها الدراهم، والوكاء‏:‏ مثل الخيط الذي يربط به، وهذا من جنس عفاص القارورة‏.‏ ولفظ العفص والسد والصمد والجمع/والسؤدد معانيها متشابهة، فيها الجمع والقوة‏:‏ ويقال‏:‏ طعام عفص وفيه عفوصة، أي‏:‏ تقبض، ومنه العفص الذي يتخذ منه الحبر‏.‏

وقـد قـال الجـوهري‏:‏ هـو مـولد ليس مـن كلام أهل البادية‏.‏ وهذا لا يضر؛ لأنه لم يكـن عنـدهم عفص يسمـونه بهـذا الاسم، لكن التسمية به جارية على أصول كلام العـرب، وكذلك تسميـتهم لما يـدخل في فمها صمام، فإن هذه المادة فيها معني الجمع والسد‏.‏

قـال الجوهري‏:‏ صمام القـارورة سـدادهـا، والحجـر الأصم‏:‏ الصلب المصمت، والرجـل الأصم‏:‏ هو الذي لا يسمع؛ لانسداد سمعه، والرجل الصمة‏:‏ الشجاع، والصمة‏:‏ الذكر من الحيات، وصميم الشيء‏:‏ خالصة، حيث لم يدخل إليه ما يفرقه ويضعفـه، يقال‏:‏ صمـيم الحر، وصميم البرد، وفلان من صميم قومه، والصمصام‏:‏ الصارم القاطع الذي لا ينثني، وصمم في السير وغيره، أي‏:‏ مضي، ورجل صم، أي‏:‏ غليظ‏.‏

ومنه في الاشتقاق الأكبر الصوم، فإن الصوم هو الإمساك‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم؛ لأن الإمساك فيه اجتماع، والصائم لا يدخل جوفه شيء، ويقال‏:‏ صام الفرس، إذا قام في غير اعتلاف‏.‏ قال النابغة‏:‏

خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

/وكذلك السد والسداد والسؤدد والسواد، وكذلك لفظ الصمد فيه الجمع، والجمع فيه القوة، فإن الشيء كلما اجتمع بعضه إلى بعض، ولم يكن فيه خلل كان أقوي مما إذا كان فيه خلو؛ ولهذا يقال للمكان الغليظ المرتفع‏:‏ صمد؛ لقوته وتماسكه، واجتماع أجزائه، والرجل الصمد‏:‏ هو السيد المصمود، أي‏:‏ المقصود، يقال‏:‏ قصدته وقصدت له، وقصدت إليه، وكذلك هو مصمود، ومصمود له وإليه‏.‏ والناس إنما يقصدون في حوائجهم من يقوم بها، وإنما يقوم بها من يكون في نفسه مجتمعًا قويًا ثابتًا، وهو السيد الكريم، بخلاف من يكون هلوعًا جزوعًا يتفرق ويقلق ويتمزق من كثرة حوائجهم وثقلها، فإن هذا ليس بسيد صمد يصمدون إليه في حوائجهم‏.‏

فهم إنما سموا السيد من الناس صمدًا؛ لما فيه من المعنى الذي لأجله يقصده الناس في حوائجهم، فليس معني السيد في لغتهم معني إضافي فقط ـ كلفظ القرب والبعد ـ بل هو معني قائم بالسيد؛ لأجله يقصده الناس‏.‏ والسيد من السؤدد والسواد‏.‏ وهذا من جنس السداد في الاشتقاق الأكبر، فإن العرب تعاقب بين حرف العلة والحرف المضاعف، كما يقولون‏:‏ تقضي البازي، وتقضض‏.‏ والساد‏:‏ هو الذي يسد غيره، فلا يبقي فيه خلو، ومنه سداد القارورة، وسداد الثغر بالكسر فيهما، وهو ما يسد ذلك، ومنه السَّداد ـ بالفتح ـ وهو الصواب، ومنه القول السديد‏.‏ قال/ الله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70‏]‏، قالوا‏:‏ قصدا حقًا، وعن ابن عباس‏:‏ صوابًا‏.‏ وعن قتادة ومقاتل‏:‏ عـدلا‏.‏ وعـن السـدي‏:‏ مستقيمًا‏.‏ وكل هـذه الأقـوال صحيح، فإن القول السديد هو المطابق الموافق، فإن كان خبرًا، كان صدقًا مطابقًا لمخبره، لا يزيد ولا ينقص، وإن كان أمرًا، كان أمرًا بالعدل الذي لا يزيد ولا ينقص؛ ولهذا يفسرون السداد بالقصد، والقصد بالعدل‏.‏

قال الجوهري‏:‏ التسديد‏:‏ التوفيق للسداد ـ وهو الصواب ـ والقصد في القول والعمل‏.‏ ورجل مسدد إذا كان يعمل بالسداد والقصد‏.‏ والمسدد‏:‏ المقوم، وسدد رمحه‏.‏ وأمر سديد وأسد، أي‏:‏ قاصد‏.‏ وقد استد الشيء، استقام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أعلمــه الرمـــايــة كـل يــوم ** فلما استد ساعده رماني

وقال الأَصْمَعِي‏:‏ اشتد ـ بالشين المعجمة ـ ليس بشيء، وتعبيرهم عن السد بالقصد يدلك على أن لفظ القصد فيه معني الجمع والقوة‏.‏ والقصد‏:‏ العدل كما أنه السداد والصواب، وهو المطابق الموافق الذي لا يزيد ولا ينقص، وهذا هو الجامع المطابق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9‏]‏ أي‏:‏ السبيل القصد، وهو السبيل العدل؛ أي‏:‏ إليه تنتهي السبيل العادلة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 12‏]‏‏.‏ أي‏:‏ الهدي إلينا‏.‏ /هذا أصح الأقوال في الآيتين، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 41‏]‏‏.‏

ومنه الاشتقاق الأوسط‏:‏ الصدق، فإن حروفه حروف القصد، فمنه الصدق في الحديث لمطابقته مخبره، كما قيل في السداد‏.‏ والصَّدق ـ بالفتح ـ الصلب من الرماح‏.‏ ويقال‏:‏ المستوي، فهو معتدل صلب ليس فيه خلل ولا عوج‏.‏ والصندوق واحد الصناديق، فإنه يجمع ما يوضع فيه‏.‏

ومما ينبغي أن يعرف في باب الاشتقاق أنه إذا قيل‏:‏ هذا مشتق من هذا، فله معنيان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن بين القولين تناسبا في اللفظ والمعني، سواء كان أهل اللغة تكلموا بهذا بعد هذا أو بهذا بعد هذا، وعلى هذا فكل من القولين مشتق من الآخر، فإن المقصود أنه مناسب له لفظًا ومعني، كما يقال‏:‏ هذا الماء من هذا الماء، وهذا الكلام من هذا الكلام، وعلى هذا فإذا قيل‏:‏ إن الفعل مشتق من المصدر، أو المصدر مشتق من الفعل، كان كلا القولين صحيحًا، وهذا هو الاشتقاق الذي يقوم عليه دليل التصريف‏.‏

وأما المعنى الثاني في الاشتقاق‏:‏ وهـو أن يكون أحدهما أصلًا للآخر، / فهذا إذا عني به أن أحدهما تكلم به قبل الآخر لم يقم على هذا دليل في أكثر المواضع، وإن عني به أن أحدهما متقدم على الآخر في العقل لكون هذا مفردًا وهذا مركبًا، فالفعل مشتق من المصدر، والاشتقاق الأصغر اتفاق القولين في الحروف وترتيبها، والأوسط اتفاقهما في الحروف لا في الترتيب، والأكبر اتفاقهما في أعيان بعض الحروف وفي الجنس لا في الباقي، كاتفاقهما في كونهما من حروف الحلق، إذا قيل‏:‏ حزر وعزر وأزر، فإن الجميع فيه معني القوة والشدة، وقد اشتركت مع الراء والزاي والحاء، في أن الثلاثة حروف حلقية، وعلى هذا فإذا قيل‏:‏ الصمد بمعني المصمت، وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار، فهو صحيح؛ فإن الدال أخت التاء، فإن الصمت السكوت، وهو إمساك وإطباق للفم عن الكلام‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ المصمت‏:‏ الذي لا جوف له، وقد أصمته أنا، وباب مصمت‏:‏ قد أبهم إغلاقه، والمصمت من الخيل‏:‏ البهيم، أي‏:‏ لا يخالط لونه لون آخر‏.‏ ومنه قول ابن عباس‏:‏ إنما حرم من الحرير المصمت‏.‏ فالمصمد والمصمت متفقان في الاشتقاق الأكبر، وليست الدال منقلبة عن التاء، بل الدال أقوي، والمصمد أكمل في معناه من المصمت، وكلما قوي الحرف كان معناه أقوي، فإن لغة العرب في غاية الإحكام والتناسب؛ ولهذا كان الصمت‏:‏ إمساك عن الكلام مع/ إمكانه، والإنسان أجوف يخرج الكلام من فيه لكنه قد يصمت، بخلاف الصمد، فإنه إنما استعمل فيما لا تفرق فيه، كالصمد والسيد والصمد من الأرض وصماد القارورة، ونحو ذلك، فليس في هذه الألفاظ المتناسبة أكمل من ألفاظ الصمد، فإن فيه الصاد والميم والدال، وكل من هذه الحروف الثلاثة لها مزية على ما يناسبها من الحروف، والمعاني المدلول عليها بمثل هذه الحروف أكمل‏.‏

ومما يناسب هذه المعاني معني ‏[‏الصبر‏]‏، فإن الصبر فيه جمع وإمساك؛ ولهذا قيل‏:‏ الصبر‏:‏ حبس النفس عن الجزع‏.‏ يقال‏:‏ صبر وصبرته أنا‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏، وكذلك معني السيد الصمد خلاف معني الجزوع المنوع‏.‏ ومنه الصبرة مـن الطعام، فإنها مجتمعة مكومة‏.‏ والصِّبَارَةُ‏:‏ الحجارة‏.‏ وصبر الشيء‏:‏ غلظه، وضده الجزع، وفيه معني التقطع والتفرق‏.‏ يقال‏:‏ جَزَعَ له جَزْعَةً من المال، أي‏:‏ قطع له قطعة، والجُزيْعَةُ‏:‏ القطعة من الغنم، واجْتَزَعْتُ من الشجر عودًا، أي‏:‏ اقتطعته واكتسرته، وجَـزَعْتُ الوادي‏:‏ إذا قَطَعْتُهُ عرضًا، والجِزْع‏:‏ منعطف الوادي، ومنه الجَزْعُ‏:‏ وهو الخرز اليماني الذي فيه بياض وسواد، وكذلك جزع البُسْرَ تجزيعًا‏:‏ إذا أرطب نصفه أو ثلثاه، وهو خلاف قولهم‏:‏ مصمت للون الواحد لما في ذلك من الاجتماع، وفي هذا من التفرق‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19‏:‏ 21‏]‏، قال الجوهري‏:‏ الهَلَعُ‏:‏ أفحش الجزع‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو في اللغة‏:‏ أشد الحرص وأسوأ الجزع‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع‏)‏‏.‏ وناقة هلوع‏:‏ إذا كانت سريعة السير خفيفة، وذئب هُلَعٌ بُلَعٌ، والهلْعُ من الحرص، والبلع من الابتلاع؛ ولهذا كان كلام السلف في تفسيره يتضمن هذه المعاني‏.‏ فروي عن ابن عباس قال‏:‏ هو الذي إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ هو الحريص على ما لا يحل له‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ شحيحًا‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ ضجورًا‏.‏ وعن جعفر‏:‏ حريصًا‏.‏ وعن الحسن والضحاك‏:‏ بخيلًا‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ شرهًا‏.‏ وعن الضحاك ـ أيضًا‏:‏ الهلوع‏:‏ الذي لا يشبع‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ ضيق القلب‏.‏ وعن عطاء‏:‏ عجولًا، وهذه المعاني كلها تنافي الثبات والقوة والاجتماع، والإمساك والصبر، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 110‏]‏، وهذا وإن كان قد قيل‏:‏ إن المراد به أنها تنصدع فيموتون، فإنه كما قيل في مثل ذلك‏:‏ قد انصدع قلبه، وقد تفرق قلبي، وقد تشتت قلبي‏.‏ وقد تقسم قلبي، ومنه يقال للخوف‏:‏ قد فرق قلبه، ويقال‏:‏ بإزاء ذلك هو ثابت القلب مجتمع القلب، مجموع القلب‏.‏